الثلاثاء، 19 يوليو 2016




الساقية

من مقدمة كتاب الساقية
تأليف: البروفسير محمد ابراهيم ابوسليم

الســاقيــــة (وباللغة الانجليزية Persian Wheel أي الدولاب الفارسي)

الساقية لغة هي جدول الماء أو قناته، ثم استعير اللفظ وأطلق على الآلة المعروفة لأنها تسقي، وبهذا الاسم عرفت الآلة في كل البلاد العربية التي استخدمتها، أما في البلاد التي لم تعرف الساقية فما زال لفظ الساقية يعني جدول الماء، والاسم النوبي الذي يطلق على الساقية يدل على مهمتها وهي دفع الماء من الأسافل الى الأعالي، واللفظ الأفرنجي لا يوحي بالسقي كما هو الحال في اللفظ العربي أو الضخ كما هو الحال في اللفظ النوبي (اسكلى) وانما ينصرف الى القوة التي تحرك الآلة سواء كانت ماء أو هواء فيقال آلة الهواء أو آلة الماء. وعلى ذلك يقضل العلماء الغربيون لفظ الساقية العربي على الالفاظ المقابلة لها في لغاتهم.

ومن الآلة انتقل اللفظ الى الأرض التي تزرعها الساقية تمييزا لها عن الأراضي التي تزرع بالمطر وغيرها، ثم صار اللفظ مدلولا على قطعة الأرض التي تزرع بساقية. وظل اللفظ مستخدما في العديد من نواحي السودان حتى بعد ان ابطلت السواقي ولكن بمعنى وحدة من الارض كالحواشة في وسط السودان.


رحم الله أبا العلاء المعرى . فقد فطن إلى أن العادات والمعتقدات والمعارف تفنى بفعل الزمن فيطويها النسيان كما يطوى الموت الأحياء:-

سيسأل ناس ما قريش ومكة كما قال ناس ماجديس وما طسم

أرى الموت يفنى أنفا بفنائه ويمحو فما يبقى الحديث ولا الرسم

لقد جد أهل الملعبين فأثلموا بناء ولم يبقى لرافعه وسم

وفى العالم الغاوى بخيل ممول وسمح فقير شد ما إختلف القسم

وكون الفتى فى رهطه نيل عزة على أن داء الدهر ليس له حسم

ويرزأ جسم المرء حتى إذا أوى الى النصر التربى لم يزأر الجسم

أما طسم وجديس فمن العرب العاربة. وقد أساءت جديس، وكان الملك فيها، إلى طسم وكثر جورها فيهم فأستاءت وقاتلها وظلت الحرب دائرة بينهما حتى أفنى بعضهم بعضا. أما الملعبان فهما الليل والنهار، ومايريد المعرى: أن أمر طسم وجديس كان مشهورا بين العرب وأن قصتها كانت شائعة يعرفها الكبير والصغير، فلما دار الزمان وإبتعد العهد نسى الناس ما كان مشهورا وذائعاً وأضحوا يسألون مستفسرين، وربما مستغربين أو مستنكرين، وما جديس وما طسم! وهو يبالغ في التصوير فيقول هل سيأتى يوم يجهل فيه الناس قبيلة قريش، تلك القبيلة ذات المركز الأول بين قبائل العرب فى الجاهلية وصدر الاسلام، ومكة وهى محجة المسلمين. وقد صور الإنسان فى دنياه وإصراره على البقاء والبناء ثم صور بعد ذلك كيف يأتى الموت ليحصد الأرواح وكيف يأتى الدهر فيبلي كل ما بنى الإنسان فيصير كل شى إلى فناء. وأن مذهب أبى العلاء فى ابياته هذه أن الرأي يذهب وأن المعتقد يبلى وأن المعارف تفنى مثلما يموت الإنسان ويفنى ومثلما تتساقط الدور والقصور وتصير مع الأرض تراباً. وليس ما ينجيها من ذلك لأن داء الدهر هو الأقوى مهما كانت متانة الرأى وقوة المعتقد وعمق المعرفة وإستقرارها على اليقين. لأن هذه الأمور حاجات إنسانية وغايات مرتبطة بالمجتمع وظروفه.
وما دمنا نحن نفنى فان آراءنا ومعتقداتنا ومعارفنا تفنى كذلك. وعلى ذلك فليس هنالك ما هو ثابت أو ما يجرد عن الإنسان. وهكذا يذهب الحي وما يخلق إما إلى فناء وعدم وإما ذمة التاريخ فلا يعرفه إلا الخبير بالماضى وبالتاريخ كما لايعرف طمسا وجديسا إلا من كان على علم بأخبار الأقدمين. ولقد علق قول المعري هذا بذهنى وأستهوانى منذ أن استشهد ببينة الأول صديق بمدينة الدويم لجأت اليه على خبر سواقى الدويم معقباً به على قول بأن السواقى قد زالت بعد أن كانت عزيزة موطدة المكانة وأن خبرها كاد يذهب فما أبلغ قول المعرى هذا وأصدقه وما أبلغ إستشهاد الصديق وأدقه فإن من أبنائنا من لم ير الساقية ويعرف من أمرها ما كان يعرفه مثله فى الجيل الذى قبلنا وما سبقه من أجيال. وغدا يأتى جيل لايعرف الساقبة الا اذا حفظت له فى المتاحف ولا يعرف من شأنها إلا ما دون له فى الصحائف. وأن هذا ليفضي بنا إلى ما دعنا للنظر مع أبى العلاء فى أمر دنيانا وزوال مانبنيه فيها، ذلك لأن أول ما دعنا إلى تأليف هذا الكتاب هو الحرص على الابقاء على الساقية مدونة للأجيال القادمة وأن نمنع زوالها من ذاكرة الإنسان. فالساقية كانت المعلم الأول في قرى الشمال. وكان عليها قوام الحياة وهى التى شكلت حياة الناس وصبغت بنيتهم الإجتماعية بطابع خاص. وقد بنى إنسان الساقية معارف شتى ومعتقدات حول الساقية، منها هندسة الساقية وتدابيرها الصناعية أو للتأثير على المناسيب، ومنها أساليب الري والزراعة وتربية الحيوان، ومنها معرفة أنواع الأرض والأمراض، ومنها المعتقدات التى نشأت من فرط الإلتصاق الوجدانى بالساقية والرغبة فى المحافظة عليها وعلى الحيوان، ومنها الوجدان الفنى المتمثل فى الغناء.

لقد بقيت هذه المعارف والمعتقدات حية وممارسة لإرتباطها بالساقية. فلما زالت الساقية إنتفت الحاجه وبطلت دواعيها فزالت معها ولم يعد يعرفها إلا القليلون. وهؤلاء ذاهبون بما يعرفون لا محالة. ومن هنا كان غرضنا الأول التدوين، أى تدوين المعارف والمعتقدات وكل ما يتصل بالساقية حتى تبقى معنا فكراً وإن ذهبت ممارسة وهنالك أمر آخر دفعنا إلى الكتابة، وهو أمر عاطفى فقد ذهبت ومسمى جماعة من الاصدقاء نزور صديقا فى بيته فلما بلغنا داره أخبرتنا زوجته بأنه ذهب مع جماعة آخرين إلى ساقيته ليصلح عطلا بها وقد توجهنا اليه فلما بلغنا المكان وقع نظرى على الساقية وكانت قد غابت عن عينى سنوات وأوشكت أن تغيب عن ذاكرتى ايضا. وقد أثارنى منظرها ولما إقتربنا منها دارت لأنهم كانوا قد تمكنوا من إصلاحها ودفعوها للدوران فصدر عنها الصوت العميق الذى عهدت سماعه فى صغري ولما إنسكب الماء من القادوس وتطاير بعضه على نحو ما كنت أعهد مرتطما بأطراف الدولاب وجرى بعضه الآخر فى الجدول إنتابنى شعور غريب كنت كمن يسمع صافراً عن الماضى بكل عمق الماضى وجلاله وكنت كمن وجد شيئا كان فى صباه وبما كان عليه أهله فى المجتمع الذى ذهب وخلف أيامنا هذه وقد أخذت على نفسى مدفوعا بهذا الاحساس العاطفي وأنا فى موضعي ذلك أن أؤرخ لهذه الآلة وأن أضع عنها كتاباً يكون وصلاً بينها وبين من لا يراها من أبناء الأجيال القادمة.
وكاتب هذه السطور ينتمي إلى أسرتين ثريتين فى الأرض والنخيل بحجم ثراء الملاك فى أرض النوبة الضيقة وكان جدى لأمي يمتلك ساقية مشهورة يشترك فيها مع أخيه وبعض أقربائه فضلا عن الجروف وبعض الجزر وفضلا عن ساقية اخرى فى خلاء ما أظنها دارت يوما ولجدي الأكبر من أبى ساقيتان كانتا مغمورتين وقد روى لى بعض الرواة أن أحداهما كانت ضيقة الأرض وأن هذا الجد وأبناءه قد وسعوا من أرضها بما حملوا من طين النهر. وجدي لأبي عمّر ساقيه جديدة إشترى أرضها من الدولة وقد نقل اليها طمي النيل على كتفه وكتوف أبنائه وعلى ظهور الحمير حتى إتسعت، وكان له شادوف، أى قطعة أرض صغيرة تسمى بالشادوف. وكان مشهورا بكثرة نخله. ثم أن لأبي وثلاثة من أخوته ساقية أخرى عمرت لأيام معدودة ثم عادت إلى الخراب مع أن أهلي كانوا يحترفون الزراعة ومشهورين بدأبهم وجلدهم فى العمل وحبهم للزراعة فان أبى قد عزف عن الساقية كلية وإحترف التجارة بعد أن عاد من مصر برأس مال صغير وقد أخلص لتجارته إخلاصاً بعيداً. وقيل أنه أقسم ألا يعمل أبناؤه بالسواقي لأنه متعبة بغير عائد. وقد خبر فى التجارة سعة ورحباً ومن ثم دفع بابنه الأكبر اليها وجعل له فرعاً فى قرية مجاورة ثم فصله عنه وجعله مستقلا بتجارته. أما الإبن الثانى فكان درويشاً. وكان من حظه أن يتعهد النخيل بالسقي. وقد أسس بستاناً من النخيل يشار اليه. أما الإبن الثالث وهو كاتب هذه السطور فقد إختلف دربه لأن إصابته بالربو وهو صغير ما عادت تؤهله لعمل شاق. وهكذا أرسل إلى المدرسة لعله يجد فى تراب الميرى حظاً. ومع ذلك فانه كان يساعد أباه وأخاه فى تجارتيهما كلما عاد إلى قريته فى عطلته وفى ما كان أبوه يزرع فى الجروف. وقد قدر له أن يقف بحكم صلته الحميمة مع الأهل والجيران على قدر وافر من المعارف عن الساقية وتركيبها وعن الزراعة والرى وأحوالها ومجتمع القرية وأحوالها وكان ما علمته وما وقفت عليه بحكم صلتي بالساقية ومجتمع القرية هو زادي الأول فيما كتبت ومصدري الأساسي فيما رويت عن ساقية النوبة وما يتصل بها. ولما شرعت فى وضع الكتاب كنت أظن مهمتى سهلة ولم يكن فى ظني إلا أن أصف دولابها وأجزاءها. ولكننى بعد أن تقدم البحث أدركت أن مهمتى لابد أن تمتد إلى الخلفيات التاريخية وإلى التدابير الهندسية فى مجال الري والزراعة وإلى أثر الساقية على التركيب الإجتماعى والسياسى. وهكذا تشعب الموضوع وإتسع . . وقد عدت إلى مصادر متنوعة تتصل بتاريخ العلوم وتاريخ التكنولوجيا وتاريخ الزراعة والري وموضع الساقية من كل ما ذكرت وإتصل جهدي من أجل ذلك أي مصادر شتى لمعارف الإنسان. وقد وجدت أن المصادر الأوربية والأمريكية عموماً تركز الكلام على لأرحية وسواقى الغرب الحديدية وطنبورة أرخميدس.
وقد أغفلت الموسوعة البريطانية فى طبعتها الإنجليزية والأمريكية الكلام عن الساقية والناعورة الشرقيتين بينما هى تتكلم كثيراً عن أرخميدس وعن سواقي الحديد والطواحين فى الغرب. غير أن جارلي سنجر والمشتركين معه فى تأليف كتاب تاريخ التكنولوجيا قد أعطوا فى هذا السفر الجليل معلومات طيبة عن ناعورة العرب والساقية الشرقية. والمؤلفون العرب عموماً لا يحفلون بموضوع الساقية والناعورة لأنهم لا يميلون بطبعهم إلى وصف الآلات، إلا من تخصص منهم من أمثال الجزرى وتقى الدين الدمشقى فأنهم برزوا فى الإختراع والكتابة معاً وزادوا على ما بلغهم من علوم الأولين فى مجالهم. وقد بذل الدكتور أحمد يوسف الحسن مدير جامعة حلب ومدير معهد التراث العلمى العربى بنفس الجامعة جهداً مشكوراً فى السنوات الأخيرة فى مضمار التعريف بتآليف العرب فى الهندسة عموماً والميكانيكا خصوصاً. أما المؤلفات التى تتكلم عن تاريخ العلوم عند العرب فأنها تذكر السواقي والنواعير باقتضاب شديد لكثرة ما تحفل بالعلوم النظرية . . والمؤلفون فى تاريخ مصر والسودان ل ايذكرون أمر الساقية إلا قليلا وبطريقة عارضة. ولعلهم يفعلون ذلك عندما يتقدم البحث فى التراث وتاريخ التكنولوجيا. غير أن الأستاذ تريقر أورد فى كتابه (( النوبة بوابة إفريقيا )) كلاماً طيباً عن أثر الساقية فى التعمير النوبة السفلى. والمؤلفون المصريون الذين تطرقوا إلى الساقية من أمثال البحيرى والدكتور الحته يتعرضون اليها وإلى غيرها من آلات الرفع فى معرض كلامهم عن الزراعة وأدوات الزراعة ولذلك لم يكن كلامهم تفضيلا ولا كان بوجه التخصص.
وقد إستفدت كثيراً من العون الذى قدمه الدكتور الحسن أحمد يوسف فى مراسلاته. كما أن مؤلفه عن تقى الدين الدمشقى ومقاله عن الجزرى وآلاته كانا مفيدين لى. وقد عاوننى صديقى البروفسير أوفاهى كثيراً إذ أرسل لي معلومات عن السواقى والنواعير باللغات الإنجليزية والألمانية والفرنسية. وإننى أشعر بأنه ماكان منظوراً لي أن أحصل على هذه المادة لو لا تفضله بها. وقد عاونتنى السيدة لدوين بأن ترجمت لي جملة من النصوص إلى اللغة الإنجليزية. ومكتبة الكونجرس بواشنطن وفرت لي بعض الأوراق عن السواقى وصورتها لى. والسيد صلاح الدين مازري أفادنى بمعلومات عن الري فى جبال النوبة. والسيد على التوم أفادنى بمعلومات عن آبار إيران المعروفة بكاريز. وعندما شرعت فى التأليف كان زميلى وصديقى السيد يحى محمد إبراهيم يؤدي دراسته العليا بالقاهرة وقد تفضل مشكوراً وأعطاني من وقته وجهده فدون لى بعض المعلومات من المخطوطات والوثائق وصور لى بعض الصحائف ونقل نصوصاً من الكتب التى كان يطالعها من أجل بحثه. وحقاً كان عونه لي عظيماً . وقد أمدنى الدكتور على عثمان بكلية الآثار والدكتور بشير إبراهيم بقسم التاريخ بمعلومات مفيدة ولفتا نظري إلى بعض المراجع. وقد إستنفرت عدداً من شباب قريتى فجمعوا لي المعلومات ووضعوا بعض الرسومات وكان أكثرهم حماساً وإنجازاً سيد أحمد عبد الرحمن بدرى. وبعض زملائي وزميلاتى بدار الوثائق المركزية أسهموا كثيراً. فمنهم من كان يستمع بصبر إلى ما كنت أرويه عن السواقي والنواعير وهو عديم الصلة بها وقليل الإحتفاء بأمرها. من عاون باستخراج ما طلبت من بيانات. وأذكر من هؤلاء السيد محمد صالح والسيدة عواطف عمر عبدالله والسيدة خديجة عثمان زروق والسيد عباس الصديق. ولا أنسى الآنسة ثريا عبدالرحمن تلك التى أخرجت بأناملها الرقيقة كل ما كتبت وما إستعدت كتابته حتى أستوفي الأمر على وجه أرضاني. والسيد يوسف عوض والأستاذتان بدرية أحمد العوض ونسيبة محمد عاونوني على تصحيح المسودات وصبروا على أداء هذه المهمة الثقيلة. كذلك أذكر صديقنا البروفسير يوسف فضل حسن الذى تابع تأليف هذا الكتاب بحرص وتشجيع، وصديقنا الدكتور حامد حريز الذى قدم لي بعض المراجع وبعض التوجيهات. والبروفسير هرمان بل أفادني بملاحظاته حول اللغة النوبية. وقد قضى ابننا محجوب محمد آدم ساعات طويلة وهو يطالع المعاجم لإستخراج الفوائد منها. وصديقنا الدكتور أسبولدنق أفادنا بقاموسه كما تكرم فأرسل الينا بعض المراجع. وصديقنا الهميم مصطفى محمد على قدم الينا مساعدات قيمة . والفنان محمد البشير محمد طاهر سعى الينا مشجعاً وعرض علينا معارفه ووضع نموذجاً لساقية الجعليين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق